
مع دخول الحرب الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة شهرها العاشر، أصبحت أغلب الأحداث السياسية الكبرى في العالم تُقاس بالإنسان العربي والمسلم وأي مؤيد للحقوق الفلسطينية حسب علاقته بهذه الحرب، وآخر هذه الأحداث الانتخابات البرلمانية البريطانية، والتي بات معلوماً للجميع أن حزب العمال بزعامة “كير ستارمر” فاز بأغلبية كبيرة من المقاعد البرلمانية.
ما أهمية هذه الانتخابات للمراقب العربي؟ وما علاقتها وتأثيرها وتأثيرها على الحرب على غزة؟
تأطير الصوت العربي والإسلامي
لقد بذل المسلمون البريطانيون، وبدرجة أقل العرب، محاولات خجولة في الانتخابات السابقة في بريطانيا للعب دور في تشكيل الاتجاهات الانتخابية لمجتمعاتهم، استناداً إلى مواقف الأحزاب والمرشحين من القضايا التي تهمهم، سواء كانت قضايا داخلية مثل الاقتصاد والبرامج الاجتماعية وكراهية الإسلام، أو قضايا تهم بلدانهم الأصلية مثل فلسطين وكشمير وسوريا وغيرها.
لكن الانتخابات التي جرت الخميس الماضي شهدت جهودا غير مسبوقة من الأحزاب العربية والإسلامية والمنظمات الداعمة لفلسطين، لحشد الصوت العربي والإسلامي والتأثير على توجهاته الانتخابية، استنادا إلى قضاياهم، وأبرزها غزة.
لقد دفعت مواقف الحكومة البريطانية السابقة بقيادة حزب المحافظين، وحزب العمال المعارض تجاه الحرب على غزة، المؤسسات العربية والإسلامية والفلسطينية إلى البدء في العمل النخبوي والشعبي للتأثير على الانتخابات. ومع الإعلان عن الانتخابات المبكرة قبل نحو شهرين، تكثفت هذه الجهود، وتم إنشاء عدة مؤسسات لتطبيقها على أرض الواقع. ولعل هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها مثل هذا العمل المنظم لرسم الاتجاهات الانتخابية للمجتمعات العربية والإسلامية بهذا الحجم، وكان هدفه الرئيسي إرسال رسالة، خاصة لحزب العمال، حول أهمية الصوت الإسلامي والعربي والصوت الداعم لفلسطين.
كان حزب المحافظين لا يهتم كثيراً بأصوات الأقليات ـ وخاصة العرب والمسلمين ـ ولا يهتم بأصواتهم، بينما كان حزب العمال يعتبر هذه الأصوات مضمونة له، حيث أصبح حزب الأقليات، بما في ذلك العرب والمسلمين. ولكن هذه المرة، تمكنت الجالية العربية والإسلامية من إرسال رسالة إلى الحزب مفادها أن أصواتهم ليست مضمونة، وأنه يجب أن يقدم لهم برنامجاً للسياسة الخارجية يحترم قضاياهم، وخاصة القضية الفلسطينية، ويأخذ في الاعتبار همومهم الاقتصادية والاجتماعية كأقليات.
لقد وصلت هذه الرسالة إلى الحزب قبل الانتخابات، وكتبت عنها عدة مقالات وتقارير في الصحف البريطانية، وغيرت قيادة الحزب جزئيا خطابها بناء عليها، إلا أنها وصلت بشكل أوضح وأعلى صوتا بعد نتائج الانتخابات، كما سيأتي تفصيله لاحقا.
كيف أثرت غزة على نتائج الانتخابات البريطانية؟
صحيح أن حزب العمل فاز بأغلبية كبيرة من المقاعد البرلمانية، إلا أن رسالة الصوت العربي والإسلامي والدعم لفلسطين بشكل عام ظهرت في النتائج، في عدة أشكال:
أولاً، خسر حزب العمال أربعة مقاعد آمنة، بما في ذلك مقاعد لوزراء محتملين في حكومته، لصالح مرشحين مؤيدين للفلسطينيين قدموا أنفسهم في الانتخابات على أساس موقفهم من غزة. وكان من أبرز الخاسرين من حزب العمال في أعقاب العدوان على غزة “تانغام ديبونير”، وهو وزير سابق في حكومة الظل أطاحت به زعيمة حزب الخضر كارلا دينار. وينطبق نفس الشيء على وزير ظل سابق آخر، هو “جوناثان آشوورث”، الذي خسر أمام المرشح المؤيد للفلسطينيين “شوكت آدم”.
وثانياً، خسر حزب العمال مقعداً واحداً على الأقل لصالح المحافظين في دائرة انتخابية كانت تعتبر آمنة لحزب العمال. وذهب المقعد في شرق ليستر إلى المرشح المحافظ، لأن مرشح حزب العمال خسر نسبة كبيرة من أصواته لصالح مرشح مستقل مؤيد لفلسطين.
ثالثا: حصلت الشابة الفلسطينية ليان محمد على عدد كبير من الأصوات، وكادت أن تطيح بوزير في حكومة ستارمر، حيث فاز بفارق لا يتجاوز 530 صوتا، وهو ما يعتبر خسارة بطعم الفوز لليان محمد، وخسارة معنوية لمرشحة قوية من حزب العمل.
رابعاً: رغم فوز «العمال» بعدد كبير من مقاعد البرلمان، إلا أن عدد ونسبة الأصوات التي حصل عليها تعتبر ضئيلة، إذ كانت نسبته أقل من النسبة التي حصل عليها «جيرمي كوربين» في عام 2017، كما أن عدد الأصوات التي حصل عليها أقل من تلك التي حصل عليها «كوربين» في انتخابات 2019. ولعب قانون الانتخابات لصالح حزب العمال وزعيمه «كير ستارمر»، لكنه سيحتاج إلى دراسة نسب التصويت المنخفضة وتداعياتها على الانتخابات المقبلة بعد خمس سنوات. ولعل من أهم الأرقام التي أظهرتها نسب التصويت أن كثافة المشاركة بشكل عام والتصويت لحزب العمال بشكل خاص في المناطق ذات الوجود الإسلامي تراجعت بنسبة تراوحت بين 10 و34 في المئة، بحسب مصادر إعلامية بريطانية.
وحتى الآن، ربما تحجب “نشوة” ستارمر هذه التداعيات، لكنه سيدفع الثمن في الانتخابات المقبلة إذا استمر في تجاهلها، وإذا استمر العرب والمسلمون في بناء جهد تراكمي للتأثير على الاتجاهات الانتخابية في مجتمعاتهم.
تأثير الانتخابات على غزة
قبل أشهر من الانتخابات، بدأ حزب العمل بمراجعة سياساته تجاه العدوان على غزة ببطء وتدريجياً، بعد ظهور استطلاعات رأي وتقارير عن التأثير المحتمل لهذه السياسات على الانتخابات البرلمانية، وبسبب الاستقالات في قيادة الحزب، وبين بعض أعضائه في البلديات.
وبعد ظهور نتائج الانتخابات صباح الجمعة الماضي، أكد وزير الخارجية الجديد ديفيد لامي أن حكومته ستعيد التوازن إلى السياسة الخارجية المتعلقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فيما دعا رئيس الوزراء ووزير الخارجية إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة بعد الانتخابات.
لكن هذه المواقف لن يكون لها تأثير حقيقي على الأرض، أولا لأن أوراق الضغط الحقيقية في يد واشنطن، وثانيا لأن حكومة ستارمر لم تعلن عن عقوبات فعلية على الاحتلال، مثل تجميد صفقات الأسلحة إذا لم يلتزم بوقف الحرب.
















