سقطرى / أسماء العليمي
في أقصى الجنوب، حيث يلامس البحر الجبال وتهمس الرياح بلغتها القديمة، وُلدت قصةٌ لا تُروى بالحروف، بل تُحسّ بالقلب.
هناك، في جزيرةٍ بعيدةٍ عن ضجيج المدن ومراكز التعليم، كانت عائشة محمد تمشي في طريقها نحو الحلم بخطواتٍ من صبر، تحمل كتابها بيد، وطفلها غيث باليد الأخرى، وقلبها عامرٌ بإيمانٍ لا ينطفئ.
لم تكن عائشة مجرد طالبة، بل كانت أمًّا تصحو على بكاء طفلٍ صغير، وتنام على صفحاتٍ لم تكتمل قراءتها.
في بيتٍ بسيطٍ على أرضٍ معزولةٍ عن فرص التدريب والورش والمراكز التعليمية، كانت تخلق من ذاتها معهدًا، ومن شغفها جامعةً، ومن كل مساءٍ طويلٍ درسًا جديدًا في الإرادة.
في الوقت الذي انشغلت فيه كثير من الفتيات بانتظار الظروف المناسبة، كانت هي تصنع ظروفها بيديها.
تقول بهدوءٍ يشبه البحر عند الغروب:
“لم أكن أبحث عن لقبٍ أو شهادةٍ فقط، كنت أبحث عن نفسي، عن تلك الفتاة التي آمنت أن العلم يمكن أن يُنبت في الصخور.”
وبين مسؤولية الأمومة ومشقة الدروس، لم تنكسر. كانت تمسح دمعة طفلها، ثم تعود لتراجع ملاحظاتها، وكأنها تسابق الوقت قبل أن تغفو عيناه الصغيرتان.
وفي كل صباح، كانت تحمل في قلبها إيمان العلم ، وتخطو نحو الجامعة وكأنها تمشي نحو الحلم الذي وعدت نفسها ألا تتخلى عنه.
وحين جاء اليوم المنتظر، يوم تخرج الدفعة الأولى من جامعة أرخبيل سقطرى، دفعة ” رواد التغيير وبناة الغد ” كانت عائشة على المنصة — لا فقط لتتسلم شهادة، بل لتقول للعالم إن المرأة السقطرية قادرة على أن تكون أمًّا، وطالبة، وملهمة في آنٍ واحد.
توجت الأولى على مستوى الجامعة، وارتسمت في وجهها ملامح النصر الهادئ، نصرٌ لا يُقاس بالتصفيق، بل بعدد الليالي التي سهرتها لتوازن بين حبها لطفلها وحبها للعلم.
كانت نظرات الناس نحوها مليئة بالإعجاب، لكن ما لم يعرفوه أن وراء كل ابتسامة، حكاية تعبٍ طويل، ودمعةٍ لم تجد وقتها لتنهمر.
عائشة اليوم ليست مجرد خريجة.
إنها رسالة صامتة إلى كل فتاةٍ في سقطرى، أن الظروف لا تقتل الحلم، ما لم نسمح لها بذلك.
أن الأم يمكن أن تصنع معجزة حين تؤمن بنفسها، وأن الشغف حين يسكن القلب، لا توقفه الجزر ولا المسافات ولا قلة الإمكانيات.
ربما لم تمتلك عائشة مقعدًا في ورشة تدريبية، ولا دعماً من جهةٍ راعية، لكنها امتلكت ما هو أعظم — روحًا لا تعرف الاستسلام، وقلبًا يضيء حتى في العتمة.
وغيث، طفلها الصغير، حين يرى يوماً شهادة أمه الموضوعة على الجدار، سيكبر وهو يعلم أن النجاح لم يكن هدية، بل إرثًا من صبرٍ ودموعٍ وأمل.

















