
في الثامن والعشرين من حزيران/يونيو، اتخذت حكومة بنيامين نتنياهو سلسلة قرارات لترسيخ الاستيطان والقضاء على الحيز الحيوي للفلسطينيين في الضفة الغربية. وتتلخص هذه القرارات باختصار في: “شرعنة” خمس بؤر استيطانية في مناطق نابلس ورام الله والبيرة وبيت لحم والخليل؛ وتوسيع صلاحيات “الإدارة المدنية الإسرائيلية” الإدارية لتشمل المنطقة (ب)؛ وإلغاء صلاحيات السلطة الفلسطينية على محمية طبيعية مصنفة ضمن المنطقة (ب) تمتد شرق بيت لحم وتغطي مساحة 166 ألف دونم، أي ما يعادل 3% من مساحة الضفة الغربية؛ وتوسيع البناء الاستيطاني في المستوطنات القائمة؛ وتقييد حركة بعض المسؤولين في السلطة الفلسطينية؛ وهذا القرار الأخير هو الأقل أهمية.
أعلن وزير المالية (والمسؤول الثاني في وزارة الحرب الإسرائيلية)، زعيم حزب الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش، أن هذه القرارات جاءت رداً على اعتراف خمس دول أوروبية بدولة فلسطين، وملاحقة الكيان الإسرائيلي أمام المحاكم الدولية. إلا أن المدهش لمن لا يتابع، أن هذه القرارات نفسها ناقشتها لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي في 19 يوليو/تموز 2023، أي قبل عام من حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول، وقبل اعتراف تلك الدول الأوروبية بدولة فلسطين، وقبل قرارات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية!
ولفهم طبيعة القرارات وخطورتها، من الأفضل العودة إلى اتفاق أوسلو الثاني الموقع في طابا بمصر في 28 سبتمبر/أيلول 1995، والذي قسم الضفة الغربية بموجبه إلى ثلاث مناطق: (أ) والتي تمثل 2% من مساحة الضفة الغربية في 6 مدن فلسطينية (باستثناء الخليل التي أعطيت وضعاً خاصاً بموجب بروتوكول وقع في 15 يناير/كانون الثاني 1997، والذي بموجبه تم تقسيمها إلى منطقتين: (هـ1) الخاضعة للسلطة، و(هـ2) الخاضعة للاحتلال). وتتولى السلطة الفلسطينية المسؤولية الأمنية والإدارية في هاتين المدينتين المنفصلتين عن بعضهما البعض.
لقد أسست إسرائيل لواقع استيطاني، يستند بشكل ساخر إلى اتفاقات أوسلو، التي سمحت للاحتلال فعليا بتوسيع المستوطنات في المنطقة (ج)، التي تمثل أكبر مساحة في الضفة الغربية. وقد أدى هذا الواقع الاستيطاني إلى بنية استيطانية ممتدة ومنتفخة، مترابطة ببنية تحتية وشبكة مواصلات وموارد وفيرة من الطاقة والمياه، وتجمعات سكانية فلسطينية متناثرة ومنفصلة، مع أكثر من 700 نقطة تفتيش إسرائيلية تسيطر على عقد الاتصال بينها، وتعتمد كليا على السيطرة الإسرائيلية على مواردها.
(ب) تمثل 26% من مساحة الضفة الغربية، موزعة على 420 قرية فلسطينية، حيث تقع المسؤولية الإدارية للسلطة الفلسطينية فقط، وتمثل المنطقة (ج) 72% من مساحة الضفة الغربية وتبقى خاضعة للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية بشكل كامل.
وبموجب اتفاق واي ريفر الموقع في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1998، كان من المفترض أن يتم نقل مناطق إضافية من المنطقة (ج) إلى المنطقة (ب) والمنطقة (أ)، ومن المنطقة (ب) إلى المنطقة (أ)، على ثلاث مراحل، مقابل التزامات أمنية من السلطة الفلسطينية. إلا أن ما حدث هو العكس تماما، إذ علقت إسرائيل تنفيذ المراحل المتبقية، وبدأ مستوطنوها فور توقيع اتفاق واي ريفر في بناء المواقع الاستيطانية وشق الطرق الالتفافية الجديدة.
لقد أسست إسرائيل لواقع استيطاني، يستند بشكل ساخر إلى اتفاقات أوسلو، التي سمحت للاحتلال فعليا بتوسيع المستوطنات في المنطقة (ج)، التي تمثل أكبر مساحة في الضفة الغربية. وقد أدى هذا الواقع الاستيطاني إلى بنية استيطانية واسعة ومنتفخة متصلة ببنية تحتية وشبكة مواصلات وموارد وفيرة من الطاقة والمياه، وتجمعات سكانية فلسطينية متناثرة ومنفصلة، مع أكثر من 700 نقطة تفتيش إسرائيلية تسيطر على نقاط اتصالها، وتعتمد بالكامل على السيطرة الإسرائيلية على مواردها، مما أنتج نظام فصل عنصري واضح للغاية. (هذه الأيام يعاني فلسطينيو الضفة الغربية من عطش غير مسبوق ومبرمج بسبب تقليص الاحتلال لحصص المياه المخصصة لهم).
وفي 23 فبراير/شباط 2023، مُنح سموتريتش وزارة ثانية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، بموجب اتفاق بينه وبين وزير الدفاع يوآف غالانت، بهدف خلق مرجعية جديدة للوضع الاستيطاني في الضفة الغربية غير “الإدارة المدنية” (الإدارة المدنية هي هيئة عسكرية إسرائيلية تابعة لجيش الاحتلال تحكم الضفة الغربية، وأصبح اسمها “وحدة تنسيق أعمال الحكومة في الأراضي”).
الحكم العسكري في معناه الظاهري هو أن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية مؤقت، ولكن فصل المستوطنين في الضفة الغربية عن إدارة الجيش من خلال قسمهم المدني يعني في الواقع ضم المستوطنات إلى الكيان الإسرائيلي، وفرض نمط من الاحتلال المدني ينفي الطابع المؤقت للاحتلال في الضفة الغربية، ويؤسس لواقع أكثر خصوصية من الفصل العنصري، حيث يبقى الفلسطينيون خاضعين للإدارة العسكرية الإسرائيلية.
الحكم العسكري في معناه الظاهر هو أن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية مؤقت، ولكن فصل المستوطنين في الضفة الغربية عن إدارة الجيش من خلال قسمهم المدني يعني عمليا ضم المستوطنات إلى الكيان الإسرائيلي، وفرض نمط من الاحتلال المدني يلغي الطابع المؤقت للاحتلال في الضفة الغربية، ويؤسس لواقع أكثر خصوصية من الفصل العنصري، حيث يبقى الفلسطينيون خاضعين للإدارة العسكرية الإسرائيلية.
وتأتي هذه الخطوة، مع الضم الناعم غير المعلن للمستوطنات، ضمن خطة سموتريتش لحل الصراع في الضفة الغربية، التي أعلن عنها في العام 2017، والتي تهدف إلى القضاء على أدنى إمكانية لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية، وإقامة “إسرائيل” دولة يهودية واحدة من البحر إلى النهر.
ما حدث في 28 حزيران 2024 من قرارات جديدة هو تنفيذ لخطة معلنة، وقرارات سبق مناقشتها، منها إلغاء نفوذ السلطة الإدارية على مساحة واسعة من المنطقة (ب)، وبسط صلاحيات إدارية إسرائيلية على المنطقة (ب)، بما في ذلك قرارات الهدم ورخص البناء، وما يرتبط بذلك بالضرورة من بنية تحتية، وطاقة، ومياه، وترددات اتصالات، وشبكة مواصلات. كما ناقشت لجنة الخارجية والأمن في الكنيست في تموز من العام الماضي أيضاً بسط صلاحيات إدارية إسرائيلية على المنطقة (أ).
وإذا كانت اتفاقية أوسلو قد سمحت للاحتلال بتدمير الحيز الحيوي للفلسطينيين في المنطقة (ج)، حيث فرض الاستيطان وطور الاحتلال بناه التحتية الاستعمارية، الأمر الذي خنق الفلسطينيين في محميات بشرية صغيرة منفصلة عن بعضها البعض، وصادر منهم إمكانية التطور الزراعي والصناعي، فإن بسط الصلاحيات الإدارية الإسرائيلية على المنطقة (ب)، كما تقرر مؤخراً، والمنطقة (أ)، كما سيحدث بالتأكيد لاحقاً، يعني خنق التجمعات الفلسطينية من كل جانب، وفرض القلق والخوف وعدم اليقين على الفلسطيني الذي سيكون منزله عرضة للهدم، وستكون مصالحه في قبضة المجهول.
والمفارقة أن الإسرائيليين، منذ ذلك الاجتماع في يوليو/تموز من العام الماضي، درسوا المبررات القانونية لإجراءاتهم المقصودة لتوسيع صلاحياتهم الإدارية على مناطق السلطة وإلغاء صلاحيات السلطة في بعض المناطق بشكل كامل. والمفارقة أنهم استندوا إلى اتفاقات أوسلو نفسها، حيث نصت الفقرة (1) من البند (7) في الملحق رقم (1) من اتفاق أوسلو الثاني الموقع في عام 1995 على أن: “لا شيء في هذه المادة ينتقص من صلاحيات إسرائيل ومسؤولياتها الأمنية وفقاً لهذا الاتفاق”، أي أن تقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث فئات لا ينتقص من صلاحيات “إسرائيل” في أي من تلك الفئات.
وبالفعل، منذ عام 2002 تمارس إسرائيل دوراً أمنياً مباشراً في المنطقة (أ)، التي تغزوها بشكل مستمر بغرض الاعتقالات والاغتيالات وهدم منازل منفذي العمليات وتدمير البنية التحتية أثناء الاقتحامات، في حين يفترض أن تقتصر الصلاحيات الأمنية في هذه المناطق على السلطة الفلسطينية، فضلاً عن محمية الحياة البرية الواقعة شرق بيت لحم، والتي سحبت إسرائيل صلاحيات السلطة منها بالكامل. وقد درست إسرائيل المبرر القانوني لذلك لمدة عام، وهو أن السلطة كانت ملزمة في اتفاقية واي ريفر بتخصيص هذه المنطقة للمحميات الطبيعية والمناطق الخضراء ومنع التوسع العمراني فيها. وعدم القيام بذلك من شأنه أن يوفر للاحتلال غطاء قانونياً لتعزيز سيطرته على الضفة الغربية. (أجرى نتنياهو مناقشات حول هذه المحمية في سبتمبر/أيلول 2023، وزارها وزير الدفاع غالانت في الشهر نفسه وحذر من أن البناء الفلسطيني فيها يشكل انتهاكاً لاتفاقيات أوسلو).
إن التفتيت المستمر للوجود الفلسطيني، وجعله يائساً من حياة أفضل يمتلك فيها الفلسطيني رؤية واضحة لحياته؛ لا يقتصر على التوسع الاستيطاني الذي يدمر حيزه الحيوي ويشل قدرته على الحركة، بل يرتكز أيضاً على تنظيم الوضع الاستيطاني في ميليشيات مسلحة لها مرجعياتها الحزبية ومبادئها الأيديولوجية ومدارسها الدينية ومواردها الاقتصادية ونفوذها في الأمن والجيش والحكومة.
إن هذا التفتيت المستمر للوجود الفلسطيني، وإفقاده الأمل في حياة أفضل يمتلك فيها الفلسطيني رؤية واضحة لحياته، لا يقتصر على التوسع الاستيطاني الذي يدمر حيزه الحيوي ويشل قدرته على الحركة، بل يرتكز أيضاً على تنظيم الوضع الاستيطاني في ميليشيات مسلحة لها مرجعياتها الحزبية وأسسها الأيديولوجية ومدارسها الدينية ومواردها الاقتصادية ونفوذها في الأمن والجيش والحكومة. وتتحول هذه الميليشيات، مثل “شبيبة التلال” و”التمرد” و”تدفيع الثمن”، بشكل متزايد إلى شكل آخر من أشكال عصابات “الهاجاناه” و”الإرغون: إيتسل” و”ليحي”، وهو ما يتجلى في الهجمات التي تنتهك البلدات الفلسطينية بالحرق والتدمير والنهب والقتل.
وليس أقل سخرية أن موافقة نتنياهو الأخيرة في “الكابينت” على “شرعنة” خمس بؤر استيطانية كانت في مقابل قيام سموتريتش (كوزير للمالية) بالإفراج عن أموال السلطة الفلسطينية التي تحتجزها “إسرائيل” (بالطبع بعد خصم حصة غزة في ميزانية السلطة الفلسطينية، ومخصصات الأسرى والشهداء وعائلاتهم، والديون التي تدعي أنها مستحقة على السلطة الفلسطينية، وما تدعي أيضاً أنه تعويضات مستحقة على السلطة؛ على سبيل المثال، تعويضات لعائلات القتلى الإسرائيليين الذين سقطوا في عمليات فلسطينية).
وهكذا يصبح الراتب الفلسطيني مقابل التوسع الاستيطاني؛ في حالة من التشويه والشذوذ لم تخطر على بال أكثر الفلسطينيين تشاؤما.. والنتيجة هي هذه “إسرائيل” وهذه هي الضفة الغربية، وهذا هو مصير المشروع الاستيطاني وطريق السلام!
















