
المؤلف: عبد الكريم بدرخان
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
في هذا الكتاب يدرس الباحث في العلوم السياسية عبد الكريم بدرخان إشكالية تحول العنصرية في العقود الأخيرة من عنصرية بيولوجية مبنية على افتراض وجود أعراق متميزة، إلى عنصرية ثقافية مبنية على تقسيم الناس إلى ثقافات متميزة. وهذه العنصرية “ترتكز على ركيزتين: الأولى تحديد خصائص جوهرية ثابتة لثقافة شعب أو جماعة معينة، والثانية تعميم هذه الخصائص على كل من ينتمي إلى تلك الثقافة بالولادة، بحيث يسهل تفسير سلوك الأفراد والشعوب بخصائص قليلة يفترض أنها ثابتة فيهم”.
والأهم من رصد هذه الظاهرة، بحسب بدرخان، هو توضيح الجوانب غير العلمية للنظريات والأطروحات والخطابات العنصرية، من خلال نقد افتراضاتها الأساسية وإظهار عيوبها وانحيازاتها، وهذا يتطلب دراسة المرجعيات الفكرية التي تستند إليها، والتي قد تشمل المعتقدات الدينية والروايات التاريخية والنظريات السياسية التي تشكلت في الحقبة الاستعمارية وفترة الحرب الباردة وما بعدها، فضلاً عن نظريات المؤامرة والمنتجات الأدبية، التي يرى بدرخان أنها أصبحت رائجة مع انتشار فكرة الإسلاموفوبيا، خاصة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
العنصرية بشكل عام ظاهرة اجتماعية قديمة قدم الجماعات البشرية، لكن جانبها الخطير عادة ما يصنعه النخب والسياسيون وزعماء القبائل والطوائف ورجال الدين والفلاسفة والكتاب، وهؤلاء هم الذين يضعون الأسس الفكرية والفلسفية والعلمية الزائفة للتمييز العنصري، ويستخدمونها لحشد الناس ضد بعضهم البعض.
ويشير بدرخان إلى أن هناك ميلاً شائعاً إلى تصور وجود “جوهر” ثابت للأفراد والجماعات، وكذلك لثقافتهم، وهي جوهر عادة ما تكون مليئة بالأحكام النمطية المسبقة، وتميل إلى النظر إليهم باعتبارهم “الآخر” المختلف عن الذات، وتجعلهم، خاصة في حالات الصراع، نقيض الذات. وهنا يأتي دور النخب السياسية التي تستغل هذه التصورات وتوظفها تحت شعارات حماية الجماعة أو الشعب، أو الوطن أو الدين والتقاليد، وبإثارة المخاوف من “الآخر” سواء كان هذا الآخر حركات تحرر داخلية، أو أقليات أو مجموعات مهاجرة، أو حتى دول، لتحقيق المصالح السياسية والاقتصادية لهذه النخب وليس مصالح الجماعات التي تدعي تمثيلها.
ويشير بدرخان إلى أن التفسيرات “الثقافية” انتشرت في العقود الثلاثة الأخيرة عند دراسة أحوال الدول والشعوب وتفسير تقدمها أو تخلفها، وكثير من الظواهر السلبية والإيجابية في مجتمعاتها. ويقول إنه من الضروري نقد هذه التفسيرات لأنها تفتقر إلى الشروط العلمية ولأنها خطيرة للغاية. فهي من حيث طبيعتها غير العلمية تميل إلى التقليل من شأن التخصصات العلمية عندما تفسر الظواهر المختلفة بالثقافة وحدها. وهي تعزل الثقافة عن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتشكل فيها. ومن حيث خطورتها فإنها تحول المسؤولية إلى خصائص ثابتة في ثقافة الشعب، وبالتالي تعفي السلطات الحاكمة من المسؤولية عن الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية. فضلاً عن خطورة استحضارها بسهولة في الصراعات السياسية الداخلية والخارجية، ومعها تتحول الصراعات السياسية إلى صراعات طائفية وقبلية وهوياتية.
نظريات خاطئة
ويقول بدرخان إن العنصرية بشكل عام كظاهرة اجتماعية قديمة قدم الجماعات البشرية، لكن جانبها الخطير عادة ما يصنعه النخب والسياسيون وزعماء القبائل والطوائف ورجال الدين والفلاسفة والكتاب، وهؤلاء هم من يضعون الأسس الفكرية والفلسفية والعلمية الزائفة للتمييز العنصري، ويستخدمونها لحشد الناس ضد بعضهم البعض.
ويضيف أن العنصرية البيولوجية القائمة على فكرة تفوق عرق على آخر مثلت أخطر مراحل العنصرية، وكانت المحرقة النازية واحدة من أعظم جرائمها. وحاليا، “مع صعود سياسات الهوية في الديمقراطيات الغربية، تستخدم الأحزاب السياسية المهيمنة والساعون إلى السلطة خطابا عنصريا ثقافيا ضد المهاجرين واللاجئين، وتحميلهم مسؤولية الأزمات السياسية والاقتصادية، من أجل كسب أصوات الطبقة العاملة والفئات المتضررة من العولمة، بخطاب يركز على الكرامة والهوية الثقافية واستعادة الأوطان المسلوبة”.
يتألف الكتاب من سبعة فصول، يقدم بدرخان في الفصل الأول تعريفاً لمفهوم الثقافة، ومفهوم الثقافوية كرؤية وموقف فكري وطريقة تفسير، مع نقد هذا المفهوم “لاختزاليته والعواقب الخطيرة التي قد تترتب عليه”، كما يقدم تعريفات لمصطلحات مثل التنميط والتحيز، وتعريف “الآخرية” التي “هي العملية التي نجعل بها الآخر مختلفاً وغريباً عنا”، والنزعة العرقية التي يقابلها بالنسبية الثقافية.
في الفصل الثاني يقدم بدرخان لمحة تاريخية عن العنصرية، بدءاً من العنصرية ما قبل العنصرية، كالتعصب القبلي والتمييز الطبقي، ثم اختراع مفهوم العرق في القرن الثامن عشر، والدراسات التي استندت إليه والتي كان يُعتقد آنذاك أنها علمية، لكنها اليوم تعتبر علوماً زائفة، ثم العنصرية ما بعد العنصرية كالمركزية الأوروبية ومعاداة المهاجرين وكراهية الإسلام.. ثم ينتقل إلى تعريف مفهوم العنصرية الثقافية، وتحديد منهجها الذي “يمكِّن من نقد النظريات السياسية ونظريات المؤامرة والأعمال الأدبية والخطابات الإعلامية، واستخراج المواقف والأوصاف العنصرية منها”.
العنصرية الثقافية العربية هي “تكرار لأقوال عنصرية قديمة وجديدة، بما في ذلك الهجمات المتكررة على اللغة العربية ووصفها بالمتخلفة والراكدة والاستبدادية والذكورية والعنيفة، على عكس اللغات الأوروبية التي تتميز بصفات معاكسة، ومن ثم نقل تلك الصفات من اللغات إلى البشر”.
وفي فصل آخر يوضح بدرخان الفرق بين النظرية العلمية ونظرية المؤامرة، ودور الأخيرة في صعود التطرف، مستشهداً بكتابات استفزازية طرحتها شخصيات غربية مثل الصحافية أوريانا فالاتشي، التي تحدثت عن مؤامرة بين المسلمين بالتواطؤ مع سياسيين أوروبيين، تهدف إلى غزو أوروبا عبر الهجرة والتكاثر، ثم تعريبها وأسلمتها وإخضاع سكانها لقوانين أهل العهد، قبل أن ينتقل إلى عرض ونقد أهم التصريحات السياسية في خطاب الإسلاموفوبيا. كما يقدم بدرخان 14 رواية أدبية صدرت بين عامي 2003 و2015 في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وأستراليا، كان لها تأثير على نظريات المؤامرة وأيديولوجية اليمين المتطرف في فرنسا والولايات المتحدة، وتناولت الإسلام والمسلمين في الغرب.
العنصرية المستوردة
ويتوقف بدرخان أيضاً عند بعض مظاهر العنصرية الثقافية في السياسة والثقافة العربية، وإن لم تكن موضوع البحث، كما يقول، بهدف تحقيق قدر من التوازن، ولأن البحث فيها يجعلنا «ندرك خطورة الظاهرة أكثر، فهي ليست في مكان بعيد، بل تعيش بيننا». ويوضح بدرخان أن التركيز على العنصرية الثقافية في الغرب مبرر، فالحركات الفكرية الحديثة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار هي نتاج الثقافة والسياسة الغربية. ومن ناحية أخرى، «عنصريتنا العرقية والثقافية مستوردة من الغرب، وليست أكثر من تكرار وتقليد، وليست عنصرية أصيلة». فمثلاً العنصرية الثقافية العربية هي «تكرار لتصريحات عنصرية قديمة وجديدة، بما في ذلك الهجمات المتكررة على اللغة العربية ووصفها بالتخلف والركود والاستبداد والذكورية والعنف، على النقيض من اللغات الأوروبية التي تتسم بصفات معاكسة، ثم نقل تلك الصفات من اللغات إلى البشر».
ويشير بدرخان إلى أن الحكم على خطاب ما بأنه عنصري ثقافياً ليس غاية في حد ذاته، والأهم من ذلك هو إظهار خطورة هذه العنصرية، حيث يتم استخدامها في العالم العربي لتبرير الاستبداد، حيث يتم تفسير أحوال المجتمع والسياسة بالثقافة أو بالخصائص الثقافية المتجذرة في الشعب، وبالتالي لا تتحمل السلطات أي مسؤولية عن الظروف القائمة. وقد يستخدمها المثقفون للوقوف في وجه حركات التحرر الشعبية بحجة أن الشعب يفتقر إلى ثقافة الديمقراطية ويجب أن يقبل الاستبداد. وهذا منطق يستخدم “بالتبعية أو الاستعارة” حسب بدرخان، وأصله جاء من تبرير السياسات الغربية الداعمة للاستبداد، حيث دعمت الولايات المتحدة الأمريكية الأنظمة الفاشية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ضد إرادة شعوبها، في الوقت الذي أطلقت فيه على نفسها “زعيمة العالم الحر”.
وتكمن خطورة هذه العنصرية في عالمنا العربي في “تطييف الصراعات السياسية”، بحسب بدرخان، من خلال اختراع تفسير طائفي للتاريخ، “يصوره كحرب دائمة بين فصيلين… وبالتالي تحويل الصراع السياسي… إلى حرب دينية… وإلى صراع أبدي لا ينتهي…” ويضيف أن هذه العنصرية الثقافية تستخدم أيضاً لتبرير انتهاكات حقوق الإنسان، حيث تزعم الأنظمة الاستبدادية في العالم الثالث أن حقوق الإنسان منتج غربي، مصمم للشعوب الغربية. وفي المقابل، تستخدم الدول الغربية هذه العنصرية لتبرير سياساتها التمييزية ضد المهاجرين، على افتراض أن ثقافتهم تحمل صفات سلبية ثابتة، مما يقلل من فرصهم في سوق العمل، على سبيل المثال، أو يجعلهم هدفاً لجرائم الكراهية.
ويرى بدرخان أن التعددية الثقافية هي الأصل، وأنها واقع المجتمعات الذي يجب على الدول احترامه والاستفادة من ثرائه، فمعظم الثقافات تتولد من ثقافات ولغات سبقتها، ولذلك فإن ادعاء أصالة لغة أو ثقافة وفصلها عما يحيط بها، وأحاط بها عبر التاريخ، من ثقافات ولغات أخرى هو محض خيال، ولذلك فإن “كل النظريات الثقافية التي تستخدم لتفسير الأوضاع الراهنة على أنها نتاج طبيعي لتلك اللغات أو الديانات أو الثقافات، وكذلك لتبرير سياسات التدخل والهيمنة والتمييز، هي نظريات غير علمية، وأصحابها يفتقدون إلى المعرفة بأصول اللغات والأديان والثقافات التي يرون أنها متفوقة بطبيعتها، وقد يكون نصف ما فيها راجعاً إلى اللغات والأديان والثقافات التي يرون أنها متخلفة بطبيعتها”.
















