كتب / د. مريم العفيف
نيتشه،
أكتب إليك هذه الرسالة وأنا أحمل في نفسي صدى فكرتك التي ترفض النفاق وتبارك الصدق، حتى حيث تجرح وتؤلم. في عالم تختبئ فيه الحقيقة خلف أقنعة متعددة، ويصبح التظاهر شعيرة مقدسة، يشعر الإنسان بالغربة عن ذاته، يسير بين الظلال بلا بوصلة، يبتسم للكذب ويصمت عن الحق، ويظن أن وجوده مكتمل. هنا تُدفن المشاعر والصدق تحت ركام المظاهر، ويصبح القلب مجرد صدى يردد ما يطلبه الآخرون بدل أن ينبض بما يؤمن به.
أحمل في داخلي نفس هذه الفلسفة، وأعيش ذات القناعة التي رفضها الغالبية العظمى، ولم أرَ من يشاركها صراحة إلا أمي، التي دعمتها ووافقتني عليها، ورأيتها تتجسد في حياتها بصدق، رغم كل الصعاب، تواجه الواقع بلا أقنعة، بصراحة وشجاعة. هذه القناعة ليست مجرد فكرة، بل حضور حي للصدق في كل لحظة، نور يرشد في عالم يغلب عليه الخداع والتمويه.
أدرك أن حياة يغلب عليها التظاهر، مهما بدت مزدهرة أو مكتملة، ليست حياة حقًا. أن تبارك حيث يجب أن تلعن ليس مجرد خطأ أخلاقي، بل موت صامت للروح، انتحار داخلي يحوّل الوجود إلى مسرحية بلا حضور، إلى سردية بلا جوهر، ظلّ لحياة لم تولد أو لم تُخلق أبدًا. وهذا أقسى ما نعيشه ممن يعتنقون المظاهر المزيفة كأنها مقدسة، يزينون بها ضعفهم ويغطون بها هشاشة أنفسهم، ويقدمون للعالم وجهًا لا يعكس حقيقتهم.
النفاق يخلق انفصالًا داخليًا بين الإنسان وذاته، بين شعوره وفعله، وبين إرادته ووجوده. يصبح كل فعل أداءً، وكل ابتسامة تمثيلًا، وكل كلمة صدى للآخرين بلا صدى للذات. في هذا الانفصال تكمن مأساة الحياة، إذ يبتعد الإنسان عن جوهره ويعيش بين وهمين: وهم ما هو عليه حقًا، ووهم ما يظن أن الآخرين يريدون أن يكون.
حين يرفع الإنسان الستار عن ذاته، يقف بلا أقنعة، يقبل ضعفه كما يقبل قوته، يواجه الظلام كما يحتضن الضوء، ويصنع قيمه وفق ضميره الداخلي، لا وفق أهواء المجتمع أو قواعد التظاهر، عندها ينبض القلب، وتستنشق الروح الحرية، ويشعر الإنسان بعمق الوجود. كل شعور صادق، كل لحظة حقيقية، كل قرار ينبع من الداخل، يصبح حياة مستقلة، حياة يمكن أن تُسمي حياة، حياة مشعة حضورًا ومعنى.
من يبارك الظلم أو يغطي القبح بابتسامة مزيفة يقيد نفسه في زنزانة غير مرئية، يحجب روحه عن الإحساس بالفرح، بالحب، بالمعاناة، بالارتقاء، ويحوّل العالم إلى قفص صغير بلا نوافذ. أما من يرفض التظاهر ويواجه الحقيقة مهما كانت مؤلمة، فإنه يفتح لنفسه أبوابًا لم تعرفها روحه من قبل، ويعيش لحظات من الصفاء والنقاء، حيث يصبح كل شيء حاضرًا، كل شعور ملموسًا، وكل لحظة نابضة بالمعنى.
الحياة الصادقة ليست في التظاهر، ولا في الرضا عن ما يسيء إلى الروح، ولا في اقتباس قيم جاهزة لم تُعش. هي تلك التي يقف فيها الإنسان أمام ذاته والعالم بلا أقنعة، يعترف بما يجب رفضه، ويحتفي بما يستحق التقدير، ويعيش كل لحظة بوعي كامل وحضور تام. إنها صراع دائم بين الصدق والتظاهر، بين الحرية والسجن، بين الروح والظل، لكن في هذا الصراع يولد الإنسان حقًا، ويولد عالمه الحقيقي، ويصبح للحياة معنى لا يمكن انتهاكه.
التظاهر يقتل الروح بصمت، لكنه لا يقضي على الحقيقة. الصدق، مهما كان قاسيًا، هو الضوء الذي يضيء الطريق، الشرط الأول لأي حياة كاملة، أي حياة يمكن أن يُطلق عليها هذا الاسم. من يختار الصدق، حتى في أصعب الظروف، يعيش حقًا، بينما من يختار المظاهر المزيفة، يختبئ وراء التظاهر ويعيش في ظل الحياة بلا جوهر، بلا صدى، بلا حضور حقيقي.
نيتشه، في هذا أجد نفسي أتفق معك بشدة: من يختار الصدق، حتى لو كان وحيدًا، يكون حيًا بحق، ويملأ العالم حوله معنى وحقيقة، بينما من يختار التظاهر يعيش في الظل، لا يرى نور الحياة، ولا يشعر بعمقها.

















