كتب / جميل علي الحميدي:
رفيقُ الدرب وقف أمام صورة قائده المغوار، بعد عامٍ كاملٍ من الفراق، يحمل شوقًا لا يقدر عليه الزمن، ولا تحطمه قسوة الغياب. عامٌ من الصمت المملوء بالألم والحنين، يتذكّر فيه كل لحظةٍ جمعتهما، وكل كلمةٍ قالها قائده قبل الرحيل. ذلك الشوق لم يُخمِده الزمن، بل ازداد اشتعالًا في قلبه، يتغلغل داخل روحه كالنار التي لا تنطفئ.
اقترب ببطءٍ من الصورة، كأنه يلقى أبًا بعد غيابٍ طويل، يحمل في عينيه دموعًا أخفاها خلف صلابة الأيام. قبّل الصورة بحنانٍ عميق، كأنه يعيد الحياة للذكرى، ويلمس الروح التي بقيت حيّةً متجددة رغم رحيل الجسد. في تلك القبلة كانت أدوات التعبير عن الحب والوفاء عاجزة، فكانت كلمة القلب هي الناطقة بلا حروف.
ذاك المشهد صامتٌ، لكنه صاخب؛ يحمل في طياته الوفاء الحقيقي والعهد الذي لم ينتهِ، رغم مرور عامٍ من الفراق والاشتياق. هو عهدٌ لا تُشترى قيمته بالمال، ولا تصنعه الشعارات، بل هو قصةُ روحٍ تظلّ مخلصةً مهما طالت الأيام، ورسالةٌ تبقى متجددةً في كل لقاءٍ مع الذكرى.
رفيقُ الدرب لم ينسَ لحظةً مقامَ قائده في قلبه، ولا منزلته التي لا يُعوّضها أحد. لقد ظلّ يتحدث إلى صورته كما لو كان الحاضر يستمع إليه، يستقي منه القوة والأمل، ويتسلح بذكراه ليكمل المشوار. فهو يعلم أن القائد الحقيقي لا يموت، بل يبقى نبعَ إلهامٍ ومرشدًا في كل خطوة.
عامٌ مضى بكل ما فيه من ألمٍ وفراغٍ لا يملؤه شيءٌ سوى حضور ذكرى القائد. عامٌ تتابعت فيه الليالي التي ملأتها الأحاديث مع الصورة، كمحاولةٍ لاستعادة الطمأنينة التي فقدها بفقدانه. وبينما يتماسك ويتجلّد، لا ينسى أبدًا أن الوفاء سبيله إلى الخلود، وأن هذا الوفاء لا يُكتب بالحبر أو الأقوال، بل بالدموع والمواقف.
فالوفاء الحقيقي هو ذاك الذي يسكن القلوب ويحيي الأرواح، لا يتغيّر بتغيّر الظروف، ولا يتلاشى مع مرور الزمن. رفيقُ الدرب، في قبلةٍ واحدةٍ على الصورة، جدّد العهد بألّا تنطفئ شعلة الرسالة، وبأن يسير على درب قائده بكل عزيمةٍ وإصرار. إنه شهادةٌ حيّة على أن الأرواح العظيمة لا تختفي، بل تُخلّد عبر الأوفياء والمواقف التي تظلّ شاهدة.
فأيُّ معنى أصدقُ للوفاء من هذا؟ وكيف يمكن للحروف أن تعبّر عن عمق المشاعر التي تحملها قبلةٌ على صورة؟ تلك العين التي روتها دمعة، وتلك الروح التي أضاءت بضياء الحبيب، هما أبلغُ تعبيرٍ عن الولاء الصادق.
هي قصةُ إنسانٍ لا ينكسر بفعل الفقد، بل يقف شامخًا بالعهد والوفاء، مؤكّدًا أن الروح التي عشقت قائدَها لا تعرف إلا الثبات. هو مثالٌ للوفاء النادر الذي لا يمكن أن يُشترى أو يُزوَّر، بل يُولَد مع صدق المشاعر واستمرارية الحب.
وهكذا تبقى صورةُ القائد نبراسًا يضيء دربَ رفيقه، وحكايةَ عشقٍ يمضي بها رغم القسوة، ورغم الفراق. رسالةٌ تقول إن الوفاء هو جسدُ الكلمات وروحُها، والدمعةُ التي تروي سردَها بين السطور.
وفي كل لحظةِ حنين، تبرز مكانةُ القائد في القلب كأعظمِ قدوة، يلجأ إليها رفيقُ الدرب ليجد فيها الحماية والقوة. هذا هو الوفاء الذي لا تعرفه المناصب، ولا يُقاس بالأشخاص، بل هو شرفٌ يستحق أن يُخلّد بين الناس.
فمَن أراد أن يعرف معنى الوفاء الحقيقي، فما عليه إلا أن يرى قبلةَ رفيقِ الدرب على صورةِ قائده المغوار، بعد عامٍ من الشوق والنقاء والعشق الأبدي، هناك حيث تتحول الذكرى إلى حياةٍ وروحٍ لا تنطفئ.
لقد تركت هذه القصة رسالةً لكل مَن تساءل عن معنى الولاء والثبات، وأظهرت أن الوفاء لا يُنهيه رحيلُ الجسد، بل يُرسّخه الحب والأمل والرغبة في مواصلة الطريق، مهما تباعدت المسافات ومضت السنوات.

















