لطالما كانت العلاقة بين الشعوب الطامحة وقادتها المُكلفين بتحقيق الأحلام الكبرى علاقة مُعقدة، تتسم بالرقابة الشديدة واستعجال النتائج. في خضم لهيب الآمال وتحدي الطموحات، يكون الحكم قاسيًا، حيث لا ترى العين إلا الثمرة الناضجة وتستعجل القطاف، متجاهلةً عمق الجذور أو قسوة الرياح التي تضرب الشجرة.
في تاريخنا المعاصر، يبرز رجل حمل على عاتقه ثقل تاريخ كامل ورسم خريطة أمل لشعب كاد أن يُسقط من دفاتر الوجود، وهو الرئيس عيدروس قاسم الزُبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي. وبين النقد الشعبي المُتعجل والإنجاز السياسي الصامت، تكشفت حقيقة قيادة استراتيجية أثبتت أن السياسة فن الصمت الذي يسبق رعد العاصفة.
وطأة الأزمات وتساؤلات الشارع الجنوبي
على مدى شهور وسنوات، راقب الجنوبيون الشغوفون بحُلم استعادة دولتهم تحركات القائد الزُبيدي بعين لا تعرف المساومة في قضايا الشرف الوطني. كان صوت الشارع يرتفع، يئن تحت وطأة الأزمات المعيشية والاقتصادية والخدمية الطاحنة التي كادت أن تكون خطة ممنهجة لكسر إرادة الشعب وإذلال كرامته.
في تلك اللحظات القاسية، ساد اعتقادٌ بأن صمت القائد حول الملفات الملتهبة كان أشبه بـ “تراخٍ أو تغافل” لا يليق بثقل الأمانة، مما أثار تساؤلات مريرة في قلوب المتابعين: “كيف لراعي الحلم أن ينام وعرينه يكاد أن يُسلب؟”.
التصريحات الدولية.. خنجر بارد في قلوب المتعطشين
ازدادت حدة النقد حين كانت تُنقل تصريحات الزُبيدي من المحافل الدولية، تلك التي تناولت تكتيكات تقتضي ضم أجزاء من محافظات الشمال لدولة الجنوب القادمة، أو ربما ربط إعلان استقلال الجنوب بـ “شروط تقضي بتحرير صنعاء أولًا”.
هذا الحديث، الذي كان ينساب كالخنجر البارد في قلوب المتعطشين للجنوب كاملة السيادة والقرار، دفع البعض للاعتقاد، في غمرة العاطفة الوطنية الجارفة، بأن القائد قد حاد عن المسار أو أن رياح السياسة الدولية قد ألقت بظلالها الثقيلة على يقينه. لكن الحقيقة أثبتت لاحقًا أن هذا النقد، النابع من حرص وطني أصيل، لم يكن يدرك أبعاد فنّ الممكن وضرورات الصمت الاستراتيجي.
النقد كمرآة: واجب وطني أصيل
تجدر الإشارة إلى أن الجنوبيين، وهم يُصوّبون سهام النقد، لم يكونوا سوى مُمارسين لواجبهم الوطني الأصيل. لقد أرادوا إضاءة الشمعة على معالم الطريق، خشية أن تضل البوصلة الوطنية. وهذا الواجب لم يكن ليُغضب قائدًا حقيقيًا، يدرك أن النقد الصادق هو مرآة الوطن التي تعكس وعيه ومخاطره، لا سوطه الذي يجلده. وقد أبلت الجماهير بلاءً حسنًا في إحياء الوعي وتبيان المخاطر المُحتملة.
الصبر البالغ والحكمة العميقة: كشف السر المُخبأ
تكمن العبرة الحقيقية فيما تلا ذلك. فقد أظهرت الأيام القليلة الماضية، كاشفةً السر المُخبأ وراء ذلك الصمت المهيب، أن ما حسبه البعض تراخيًا لم يكن في حقيقة الأمر إلا صبر بالغ وحكمة عميقة.
لقد أدرك الزُبيدي، بذكاء القائد المُحنك، أن معارك اليوم قد تُربح بـ الصوت الخافت والتخطيط المتأني، وليس بالصراخ الأجوف أو الاندفاع العاطفي. وأدرك أيضًا أن الالتزام بـ خارطة طريق دولية وإقليمية، قد تبدو أطول أمدًا، لكنها أكثر أمنًا وثباتًا نحو الهدف الاستراتيجي المنشود: إعلان الدولة الجنوبية.
لقد حمل هذا القائد أمانة التفويض الشعبي بثقة واقتدار، وهو تفويض يتجاوز كونه ورقة رسمية ليصبح عقدًا روحيًا ووطنيًا بين قائد وشعب. ومن يخوض معتركًا سياسيًا محاطًا بأمواج عاتية من المصالح المتضاربة والقوى المتربصة، يلزمه أن يرتدي درع الحكمة والدهاء السياسي، لا ثوب الاندفاع غير المحسوب.
الوقائع تثبت: القائد المناسب للمرحلة
اليوم، تثبت الوقائع أن النوايا كانت نقية، والبوصلة لم تنحرف. كان التكتيك ضروريًا، والصمت لازمًا. والهدف الأسمى اقتضى تجنيب الشعب الجنوبي المزيد من الأهوال، والسير به في طريق ربما بدا طويلًا وملتويًا، لكنه كان آمنًا ومُعبّدًا للوصول إلى برِّ الاستقلال.
لقد أثبت الزُبيدي أنه كان ولا يزال القائد المناسب للمرحلة الحاسمة، والرجل الذي استحق ثقة الشعب عن جدارة. لقد استطاع بحكمته البالغة، وصبره الذي لو وُزِعَ على قوم لكفاهم، أن ينجز الأهداف الاستراتيجية بهدوء، وأن يُحول قسوة النقد إلى سند وإظهار الحقائق إلى برهان للإنجاز.
انضموا لقناة عرب تايم الإخبارية علي تيليجرام وتابعوا اهم الاخبار في الوقت المناسب.. اضغط هنا

















