كتب د. الخضر عبدالله:
على مقربةٍ من مبنى سوق مدينة الشيخ عثمان بعدن، وفي زاوية لا يلتفت إليها العابر لأول وهلة، يقف محل صغير بواجهة بسيطة وشبّاك حديدي قديم يتكئ على باب عتيق. ورغم بساطة شكله، إلا أنّه يحتفظ في داخله بتاريخ لا يقل عمقاً عن تاريخ المدينة نفسها. إنها بوفيه الحمادي… مكان بات جزءاً راسخاً في ذاكرة أهالي الحي، ومحطة إنسانية تجمع بين عبق الماضي ونبض الحاضر المتغيّر.
البداية… حلم رجل بسيط في زمن صعب
في عام 1978، حين كانت عدن تعيش إيقاعاً هادئاً رغم ما يمر بها من شح وواقع معيشي صعب، قرر عبدالرحمن الحمادي أن يفتتح محلاً صغيراً ملاصقاً لسوق الشيخ عثمان. لم يمتلك رأس مال كبيراً، لكنه امتلك ما هو أهم: إرادة صلبة، وحب للعمل، وإيمان عميق بأن اللقمة الحلال تصنع للإنسان معنى وكرامة واستقراراً.
بدأ عبدالرحمن مشروعه بقائمة بسيطة: سندوتشات خفيفة، بيض مسلوق، ليمون طازج، وشاي بالحليب أصبح لاحقاً علامة مميزة للبوفيه. ورغم بساطة المكونات، إلا أن روح المكان كانت دافئة، تجعل الزبون يشعر وكأنه في منزلٍ صغير مليء بالمحبة. كان الطلاب يتوقفون فيه صباحاً قبل ذهابهم لمدارسهم، وكان عمّال السوق وأصحاب البسطات يجدون فيه محطة يستريحون عندها من هموم يومهم. وحتى كبار السن كانوا يقصدون البوفيه ليبادلوا الأحاديث ويتابعوا آخر أخبار الحي.
صوت السياسة وندى الصباح
لم تكن بوفيه الحمادي مجرد محل للأكل، بل كانت أقرب إلى مقهى شعبي غير معلن. مكان يجلس فيه رجال الحي طويلاً يتبادلون النقاشات والحكايات. كان بعض الزبائن، ممن عاشوا فترة الاحتلال البريطاني، يستعيدون ذكريات تلك الأيام، ويتحدثون عن دورهم في مواجهة النفوذ البريطاني وكيف تغيّرت عدن بعدها. كانت النقاشات السياسية جزءاً من طعم الشاي، وكانت رائحة الخبز الساخن تمتزج مع قصص النضال القديمة، حتى أصبح المكان شاهداً على أجيال تعاقبت وأحداث مرّت ولم تُنسَ.
2003… حين تعب الجسد وواصل القلب
مرت السنوات واحدة تلو الأخرى، وكبر عبدالرحمن. وبرغم تقدّم العمر، ظل واقفاً خلف الموقد، يعدّ السندوتشات بيده ويقدّم الشاي بابتسامته الهادئة. لكن الجسد لم يعد يتحمّل. في عام 2003 بدأت قدماه تؤلمانه بشدة. أصبح الوقوف طوال اليوم مهمة شبه مستحيلة، ورغم محاولاته الصامتة لمقاومة الألم، كانت الأيام أثقل من قدرته.
وبحزن شديد اضطر عبدالرحمن أن يترك المكان الذي أحبّه كما يحب أحد أبنائه. غير أن القدر كان لطيفاً معه، فقد كان ابنه خالد عبدالرحمن الحمادي جاهزاً ليحمل الراية من بعده.
خالد… الابن الذي ورث المهنة والقلب
حين تسلّم خالد إدارة البوفيه، لم يغيّر شيئاً من روح المكان. بقي الاسم نفسه، واللمسات نفسها، والقائمة ذاتها، وحتى الأدوات القديمة التي يصرّ على أنها جزء من هوية البوفيه. كان يقول دائماً:
“هذه البوفيه ليست مجرد مصدر رزق… هذه أمانة.”
ورث خالد عن والده عادة الاستيقاظ قبل الفجر. ومع كل صباح يفتح باب المحل بنفسه، وكأنه يفتح باب ذاكرته أيضاً. ومع الوقت، صار وجهه مألوفاً لكل من يمر بالسوق، وباتت علاقته بالزبائن علاقة عائلية أكثر منها تجارية.
2019… بداية الانحدار الهادئ
لكن الزمن تغيّر. ومنذ عام 2019 بدأت حركة البيع تتراجع شيئاً فشيئاً. المطاعم الحديثة اجتاحت المدينة، وازدادت خيارات الوجبات السريعة، وتغيّرت أذواق الشباب، وتراجع عدد رواد السوق نفسه.
يقول خالد بصوت هادئ يحمل مزيجاً من الرضا والقلق:
“العمل الحمد لله… بس مش مثل أول.”
ورغم أن الربح لا يزال مقبولاً، إلا أن المقارنة بين الماضي والحاضر موجعة. فقد كانت البوفيه تعجّ بالزبائن في الماضي، حتى أن الجلوس فيها كان أمراً صعباً. أما اليوم، فهناك ساعات تمرّ دون أن يدخل أي زبون.
ورغم ذلك… لا يغلق الباب
الغريب أنّ خالد لا يفكر في إغلاق البوفيه مطلقاً. يقول:
“لو سكرت يوم، أحس كأني فقدت جزء من روحي. هذا المكان علّمني الصبر، وعاش معي كل المراحل.”
ورغم تقلّبات الزمن، ما زال باب البوفيه يُفتح كل صباح، وما زالت رائحة الليمون تعبق في المكان، وما زال الخبز يُحمّص على نفس الموقد القديم. هناك زبائن ثابتون يأتون من بعيد لأنهم يريدون “الطعم القديم”. أحد كبار السن قال لخالد ذات يوم:
“والله يا خالد، هنا كبرت، وهنا سمعت أخبار العالم كلها… هذا المكان له روح.”
ذكريات لا تُنسى… وحكايات لا تنطفئ
كل ركن في البوفيه يحمل ذكرى:
هنا كان يجلس رجل من رواد الحي يناقش السياسة وكأنه وزير.
وهنا كان عبدالرحمن يضع صحن البيض المسلوق بابتسامته التي لا تفارق وجهه.
وهنا يتذكر خالد أول يوم وقف فيه خلف الموقد، خائفاً من أن يحترق الخبز أو ينسى ملح الليمون.
هذه التفاصيل الصغيرة جعلت من البوفيه معلماً إنسانياً حقيقياً، لا مجرد محل تجاري. ربما لهذا يتمسّك خالد بها حتى اليوم، وكأن المكان يستمد حياته من وفائه.
ختاماً… البوفيه التي تشبه عدن
بوفيه الحمادي تشبه مدينة عدن نفسها:
طيبة، بسيطة، صابرة، رغم كل ما مرّت به من أزمات وحروب وتغيّرات.
وما دام الباب يُفتح كل صباح، فستظل هذه الحكاية مستمرة، وستبقى البوفيه شاهدة على جيل مضى وجيل يعيش وجيل سيأتي… حكايةٌ لم تُكتب نهايتها بعد.
















