تبدو اللحظات التاريخية في حياة الشعوب أحيانًا وكأنها استعادة لوعي قديم، أو استنهاض لروح كانت تكمن خلف ستائر الزمن بانتظار إشارة القدر.
والحقيقة أن المشهد المهيب الذي شهدته العاصمة عدن اليوم، وتحديدًا في ساحة العروض بمديرية خورمكسر، لم يكن مجرد رصد صحفي مجرد، بل كان استنطاقًا للمعنى الكامن خلف حركة البشر وصخب الهتاف الذي هزّ أركان المدينة.
إن تدفق الحشود القادمة من “يافع المدد”، وهي تشق طريقها نحو قلب العاصمة، يمثل كتلة حرجة من الإرادة تقتحم فضاء الوطن لتعيد صياغة حقائق القوة على الأرض، وتعلن للعالم أجمع أن قطار الاستقلال الجنوبي قد تجاوز محطات الانتظار ليقف على أعتاب الدولة كاملة السيادة.
كيمياء الجبال والحرية: يافع كحالة جنوبية عابرة للجغرافيا
عندما تحضر يافع في المشهد السياسي والعسكري الجنوبي، فنحن لسنا بصدد حضور جغرافي لمديرية أو منطقة بعينها، بل نحن بصدد حضور الجنوب بكامل ثقله وتاريخه وعنفوانه. يبدو أن هناك كيمياء خاصة تربط بين هذه الجبال الشاهقة وبين فكرة الحرية؛ تجعل من حضورها شعلة للاستقلال لا تقبل الانطفاء، وتجعل من حركتها زلزالًا يقلب الموازين ويغير المناخ السياسي العام في المنطقة بأسرها.
لقد كانت يافع، ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق الحراك الجنوبي السلمي وصولًا إلى الكفاح المسلح، هي العمود الفقري الذي استندت إليه القضية، وهي الوقود الذي غذى نيران المطالبة بالحق الضائع. هذا الدور لم يكن وليد الصدفة، بل كان انعكاسًا لصلابة بنيوية في الوجدان اليافعي الذي تشعبت جذوره في تراب الجنوب العربي، فقدمت التضحيات تلو التضحيات، ولم تبخل يومًا بدم أو مال.
كسر المعادلات التقليدية وتغيير موازين القوى
وصول هذه الأفواج الجماهيرية اليوم للالتحام بالمعتصمين في قلب عدن لم يأتِ لإضافة رقم إلى سجل الحضور، بل جاء ليرجح الكفة ويفرض واقعًا جديدًا يتجاوز كل الحسابات التقليدية.
تحطيم الرهانات: المعادلة التي كانت تظن بعض القوى المعادية أنها استقرت على حال معين من الركود، انكسرت اليوم تحت أقدام القادمين من القمم الشماء.
إرث ردفان والجنوب: يحمل هؤلاء القادمون معهم إرث ردفان وكل ذرة رمل في الجنوب، مؤكدين أن الثمن الباهظ الذي دفعوه لم يكن ثمنًا للانتظار، بل كان مهرًا للحرية والسيادة.
رسالة للداخل والخارج: الحشود أكدت أن الإرادة الشعبية هي المصدر الوحيد للشرعية، وأن أي تسوية سياسية لا تضع استقلال الجنوب في مقدمة بنودها هي تسوية فاشلة بامتياز.
إعادة ضبط البوصلة الوطنية نحو “ساحة العروض”
إن ما حدث في ساحة العروض هو بمثابة إعادة ضبط للبوصلة الوطنية الجنوبية. لقد استشعر كل جنوبي في تلك اللحظة معنى الفخر والاعتزاز، ليس تعصبًا لمنطقة، بل إدراكًا بأن القوة الحقيقية تكمن في هذا التلاحم العضوي بين:
الأرض والإنسان: حيث تذوب الفوارق المناطقية أمام قدسية الهدف.
الجبل والساحل: التحام يافع وردفان والضالع مع عدن وأبين وحضرموت وشبوة والمهرة وسقطرى.
اليقين المطلق: القناعة التامة بأن الحق الجنوبي لا يُستجدى، بل يُنتزع بصمود الرجال في الميادين والجبهات.
هذا التلاحم يجعل من المستحيل تجاوز إرادة هؤلاء الناس، أو الالتفاف على تطلعاتهم التي صيغت بالدم والدموع واليقين المطلق بقدسية الهدف المنشود تحت قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي.
يافع والجنوب.. روح واحدة في جسد الاستقلال
إن حضور يافع اليوم في ساحة العروض هو شهادة حية على أن الثورة الجنوبية متجددة، وأن الأجيال تتوارث راية الاستقلال بصلابة أكبر. لقد أثبت “أبناء الجبال” أن المسافة بين القمة والساحة هي مسافة قصيرة جدًا حين يكون الدافع هو الوطن، وحين تكون الغاية هي استعادة الدولة الفيدرالية المستقلة.
ستبقى عدن حاضنة لكل أبناء الجنوب، وستظل يافع هي المدد الذي لا ينضب، والسند الذي لا يلين، حتى يرفرف علم الجنوب فوق كل شبر من أرضنا الطاهرة.
انضموا لقناة عرب تايم الإخبارية علي تيليجرام وتابعوا اهم الاخبار في الوقت المناسب.. اضغط هنا
















