لقد تفتحت براعم الأمل من جديد في نفوس الشعوب التي عانت وتضررت مما اعتبروه انتكاسة لـ«الربيع العربي». وشهد الملايين ازدهار التوقعات بأن ينجلي طوفان المظالم، ثم فجأة لم تعود الأمور إلى ما كانت عليه من قبل فحسب، بل ازداد طغيان وطغيان الظلم، إذ تمكن المخالفون للشعب من السيطرة عليهم بعد أن سيطروا عليه. أيقنوا برحيلهم، فظنوا أنهم قادرون على الإمساك بزمام الأمور بعد أن ذهب رؤوس أنظمتهم. لكن مع نجاح الشعب السوري الشقيق في إزاحة بشار الأسد، رغم كونه الحاكم الوحيد في دول “الربيع” الذي استطاع أن يحافظ على نفسه ونظامه، بعد أكثر من 13 عاماً شاقاً؛ ارتفعت الآمال في بقية دول «الربيع»، وطرحت أسئلة، أولها: هل نستطيع استعادة روح الثورة من جديد كما فعل السوريون؟ أم أنها مجرد “أحلام بعيدة المنال”؟ الاستيقاظ ثم السعي وراءه يؤذي النفوس المتعبة أكثر مما يساعدها؟
بصراحة، لا يمكن لأي شعب عربي استطاع أن يتنفس حلم الحرية منذ 2011 أن يتحمل إغلاق «أبواب الأمل» بنجاح ثورته. بل المظلومون بالسجن والإصابة يودعون العزيز ويعلنونه شهيداً؛ إنهم لا يستطيعون أن يكتفوا بـ”التهرب” من باب التمني أن تزدهر ثوراتهم من جديد، ولكن: كيف تستقيم الآمال بأشرعتها على مصراعيها، وسفنها جاهزة للإبحار نحو بحار الحرية، مع استمرار الواقع “ يركض” ولا شيء يتغير؟!
ومن المؤسف أن أغلب شعوب “الربيع العربي” كانت تتمنى التغيير بشدة وتنتظره دون أن تبذل جهداً مناسباً طوال السنوات الماضية. ومن المؤسف أيضاً أن هذه الأمنيات “العظيمة” قد أرهقت قلوب الملايين إلى حد أنهم أصبحوا يرون كل بصيص من الأمل في المستقبل بمثابة فشل خفي. ولا يخفى على أحد أن كل “نوبة استيقاظ” كان يتبعها ألم مؤقت للملايين؛ ومع ازدهر سقف التفاؤل، جاءت سيول الألم مع فشل الأول، وكان الأجدر بنا أن نراقب أنفسنا وحركتنا بعناية لندرك أن «العمل الثوري» لا يتوقف علينا وحدنا؛ وحتى لو قمنا بكل ما علينا، علينا أن ننتظر «انفراجاً دولياً» يتسع لنا، كما حدث مع الحراك الثوري في سوريا.
وربما في سياق ازدهار آمال دول الربيع ثم انهيارها مع كل موجة ثورية -حقيقية أو مبالغ فيها- فإن ذلك يشير إلى بعض “ضيق التنفس” الثوري. ومن ناحية أخرى، فإن البعض حتى من أنصار الثورات «يتخيلون» «غياب الربيع العربي» -لا سمح الله- فلا. يدرك أن “انتفاضة الخبز” في مصر يومي 17 و18 يناير/كانون الثاني 1977، لم تكن انتفاضة خبز، بل مطالبة بالحرية؛ أشعلها ارتفاع أسعار السلع الأساسية، ولم يدعمها الرئيس الأسبق أنور السادات، بدءا بإذاعة مسرحية “مدرسة المشاغبين” لأول مرة عصر يومها الثاني، ثم التراجع عن زيادة الأسعار، و محاولاً قمع من ارتكبها، ثم ارتمى بنفسه أكثر في أحضان الأميركيين وأمامهم الصهاينة في «كامب ديفيد». “؛ والحقيقة أن الثورة ظلت تحترق تحت الرماد حتى ازدهرت بعد نحو 32 عاما في 11 يناير 2011م. وهي انتفاضة ظلت راكدة على الأحداث والأيام حتى اندلعت ثورة بعد أكثر من ثلاثة عقود. وماذا عن الثورة نفسها عندما بدأت؟ هذا هو حال الثورة السورية، وبقيت “انتفاضة حماة” نواة “مشتعلة” تحت الركام منذ سحقها “الأسد الأب”. عام 1982م حتى نجحت الثورة قرب نهاية عام 2024م، ولم ينهِ مرور كل هذه السنوات الثورة رغم المآسي والتضحيات الكبيرة التي لم تتجلى بالكامل حتى يومنا هذا!
ونحن في أمس الحاجة إلى إيمان قوي بأن ربيعنا منتصر ما دمنا مستمرين فيه وسعينا من أجله. نحن نؤمن بها، ولكن من دون مبالغة وتسرع وانتظار كل «بارق أمل» متناسين السياق الدولي. وهو الذي لولاه يصبح حالنا وحال بلادنا كما قال الشاعر القديم بالفرق الجمعي:
فإذا لم يكن هناك عون من الله للغلام فإن أول ما ينفعه هو جهده
لذلك، نحن بحاجة إلى فهم كبير أن “عمر الظلم ساعة، وعمر الحق إلى قيام الساعة”. ورغم الألم والمعاناة الكبيرين وفيضان المظالم والضيقات، كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
وللحرية الحمراء باب يطرق مع كل يد حمراء تطرق
ولا نملك، ولا نستطيع، بعد، سوى الأمل في الغد، وسنراه قريباً!