لقد أدرك الأتراك الإسلاميون منذ زمن طويل خطورة الأفلام والمسلسلات التي تستخدم كسلاح فتاك لتحقيق أهداف حملات التغريب والغزو الفكري، ومحاربة قيم المجتمع الإسلامي وأخلاقه ومعتقداته. ورأوا أن هناك حاجة ملحة لمواجهة هذه الأعمال الفنية المدمرة من خلال أفلام ومسلسلات تحترم عادات المجتمع وتقاليده، وتحمل رسائل نبيلة. ويهدف إلى رفع مستوى الوعي بين المشاهدين. لقد أنتجوا فيلمين أو ثلاثة، لكن هذه الجهود ظلت غير فعالة في مواجهة السيل الساحق من الأفلام والمسلسلات غير الفعالة.
إن تاريخ السينما التركية مليء بالأفلام التي تصور المسلمين المتدينين على أنهم أشرار فاسدون منافقون يستغلون تدينهم لأغراض دنيوية، في مقابل تصوير العلمانيين على أنهم أشخاص ذوي قلوب طيبة وأيادي بيضاء يحاربون هؤلاء الأشرار من خلال “تنوير” المجتمع لـ تخلص من «الرجعية» وارتق إلى مصاف المجتمعات الغربية المتقدمة. وتهدف هذه الأفلام إلى رسم صورة ذهنية تساهم في ترسيخ العلمانية وتغريب المجتمع التركي، وقطع ارتباطه بجذوره الإسلامية وتراث الدولة العثمانية.
وصول حزب العدالة والتنمية، برئاسة رجب طيب أردوغان، إلى السلطة في تركيا، فتح المجال أمام إنتاج أفلام ومسلسلات هادفة، بدعم من الحكومة، ونشرها على القنوات التلفزيونية الرسمية.
وصول حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان إلى السلطة في تركيا فتح المجال أمام إنتاج أفلام ومسلسلات هادفة، بدعم من الحكومة ونشرها على القنوات التلفزيونية الرسمية. وقد لاقت بعض هذه الأعمال قبولاً كبيراً من المشاهدين ونالت شهرة واسعة تخطت حدود البلاد لتصل إلى جميع أنحاء العالم، مثل مسلسل “قيامة أرطغرل”. ثم جاءت في مايو/أيار 2023 منصة “ناتوري” الرقمية التي أنشأتها هيئة الإذاعة والتلفزيون التركية (TRT) لمنافسة المنصات العالمية، مثل “نتفليكس”، وتقديم محتوى مناسب للمجتمعات المسلمة والعائلات المحافظة.
ونشرت منصة «طبيعية» الشهر الماضي مسلسل «غسال» الذي يتكون موسمه الأول من عشر حلقات، ويحكي قصة رجل تركي يعمل في غسل وتكفين الجنائز. هو نوع من الدراما الكوميدية التي تجمع بين القصص الجادة والمشاهد الفكاهية. ويثير المسلسل تساؤلات حول حقيقة الموت، ويدعو المشاهدين إلى التأمل والتأمل في معاني الحياة والعلاقات الإنسانية. ووصل عدد مشاهدي المسلسل إلى الملايين خلال أيام، لكنه أثار جدلا بين العلمانيين والإسلاميين حول نجاحه كعمل فني.
لم يعجب العلمانيون بمسلسل “غسال” رغم إشادة معظم المشاهدين به، وحاولوا التقليل من القيمة الفنية للمسلسل والنجاح الذي حققه خلال فترة قصيرة، دون الكشف عن الأسباب الحقيقية لانزعاجهم. إلا أن أي باحث يبحث عن هذه الأسباب لن يجد صعوبة في اكتشافها في المواقف السابقة للعلمانيين من مثل هذه الأعمال الفنية، وبين سطور التعليقات والتصريحات التي لا تخفي حكمهم المسبق وانحيازهم لأي عمل هادف قد يتجاهله الجمهور. وتقف حكومة حزب العدالة والتنمية خلفها مهما كانت قيمتها وفق المعايير الفنية. .
تختلف الأسباب التي أثارت استياء العلمانيين من مسلسل “غسال”، أولها ظهور مثل هذه الأفلام والمسلسلات لتنافس أفلامها ومسلسلاتها المتدنية الجودة. كما يريدون أن يبقى مجال الفن والسينما تحت سيطرتهم، وألا يتألق هناك نجوم الفنانين والممثلين الوطنيين الذين يلعبون أدوارا في أفلام ومسلسلات هادفة، وأن يحترمون إرادة شعبهم وقيمه، عاداتهم وتقاليدهم، ولا يعاكسون حكومة بلادهم لصالح أجندات القوى الإقليمية والدولية، ويرفضون دعاية الشذوذ بحجة الدفاع عن… الحريات الشخصية.
ومن المعروف أن أغلب الفنانين والممثلين حاليا هم من لون سياسي واحد، ويعملون على دعم الأحداث والمواقف، مثل أحداث “جيزي بكركي” التي هدفت إلى إسقاط الحكومة المنتخبة من خلال إثارة الفوضى والشغب.
ومن المعروف أن أغلب الفنانين والممثلين حاليا هم من لون سياسي واحد، ويعملون على دعم الأحداث والمواقف، مثل أحداث “جيزي بكركي” التي هدفت إلى إسقاط الحكومة المنتخبة من خلال إثارة الفوضى والشغب.
السبب الثاني لانزعاج العلمانيين من مسلسل “الغسال” هو تذكيره بمدمر الملذات. ومن المؤكد أن تذكير المجتمع المسلم بحقيقة الموت يجعله متمسكاً بدينه على أمل الفوز بالجنة والنجاة من النار، ويبعده عن الانشغال بملذات الحياة الدنيا، ويفسد خطط العلمنة. والتغريب. ولا شك أن هذا الأمر يزعج العلمانيين الذين يكرهون مظاهر التدين، ويسعون إلى إبعاد المجتمع التركي عن التمسك بتعاليم دينه، وإشغال الناس باللغو واللهو واللهو، بحجة تفريق الأمور. للدين والدولة.
وهناك سبب آخر لانزعاج العلمانيين من المسلسل، وهو أنه يتناول جهلهم بالدين ومدى بعدهم عن المجتمع المسلم. وفي أحد المشاهد مثلا تسأل امرأة من أحد أقاربه المتوفى: متى سينتهي من غسله وتكفينه وتجهيزه للدفن، فيقول بطل المسلسل: «قبل صلاة العصر» في إشارة إلى صلاة العصر، ولكن فالمرأة لا تفهم الجواب، لأنها لا تعرف ما هو وقت العصر. . وأثار هذا المشهد غضب العلمانيين، واعتبروه إهانة لهم. إلا أن الأتراك لم ينسوا الفضائح التي تكشف مدى جهلهم بأمور الدين وعادات المجتمع وتقاليده. ونشروا في إحدى الصحف تقريرا بعنوان “موسم الحج هذا العام يتزامن مع عيد الأضحى”، وأن أحدهم اقترح تأجيل شهر رمضان. لأن المسلمين لن يتمكنوا من أداء صلاة التراويح في المساجد مع الجماعة بسبب جائحة كورونا، كما اقترح كاتب علماني مشهور إنشاء الكعبة المشرفة في كل دولة إسلامية للتغلب على… مشكلة الزحام أثناء الحج.
وأدى نجاح مسلسل “غسال” إلى اشتراك مئات الآلاف في منصة “الطبيعة” الرقمية، ومن المتوقع أن يتم الإعلان عن موعد نشر الموسم الثاني من المسلسل خلال الأيام المقبلة. وهذا النجاح يفتح الآفاق لإنتاج أفلام ومسلسلات مماثلة في المستقبل. كما أن هناك فرصة للتعاون بين تركيا والدول العربية والإسلامية في هذا المجال لإنتاج أعمال فنية مشتركة من أجل مواجهة غزو المنصات الرقمية المدمرة وحماية الأجيال الناشئة.